كانوا مفعمين بالتفاؤل ولكنهم ...

كانوا مفعمين بالتفاؤل ولكنهم ...

كل (حادثة انتحار) تتكشف عن روابط معقدة جدا بين (خيار الموت انتحارا) وبين العامل (الاجتماعي - الثقافي)وكل انتحار هو ضد الطبيعة والحياة والأديان.
ان الشعور بالاسف من قيام الانسان بوضع حد لحياته لا يحجب تماما حقيقة ان المفكرين والباحثين لطالما سعوا عبر العصور الى القيام بتحليل مسألة الانتحار ودراستها سيكولوجيا من جميع ابعادها المختلفة: الاجتماعية, الثقافية, والذاتية.
وقد عرف التاريخ الثقافي العالمي العديد من الكتاب والشعراء والروائيين الكبار الذين كانوا اقوياء وادبهم كان مفعما بالقوة والتفاؤل لكنهم انتحروا فهل هنا كسبيل (ما) لمقاربة (منطق) الانتحار ومزاجه وطبيعته?!
ولنبدأ بخليل حاوي فقد تساءل: أين العرب.. ثم انتحر!
في السادس من حزيران عام 1982م, العاشرة ليلا, كان الشاعر خليل حاوي يمشي في ليل بيروت, وكان يوم احد وقد احتلت اسرائيل جنوب لبنان.... رائحة الغبار.. والبارود.. واصوات القذائف تملأ الفضاء... الشاعر يصعد درجات بيته وحيدا... دخل الى شرفة غرفته التي تطل على البحر الابيض المتوسط... حمل بندقيته واطلق رصاصة واحدة على رأسه المبدع.. وقد تعمد ان يكون سقوطه جانب الفتحة التي تصرف الماء.. لئلا يزعج والدته في تنظيف الشرفة من الدم الذي سينزف منه!!
لم يقل خليل حاوي شيئا, ولم يكتب وصيته... ولماذا انتحر!!! كل ما قاله وهو يشاهد مدينته محتلة: (مين بدويشيل هالذل عني), (أين العرب)?!
لقد جاء انتحار الدكتور خليل حاوي (كذروة درامية لمعاناة الطليعة الشعرية العربية, التي حاولت المستحيل من اجل احداث تغيير جذري في بنية الكتابة الشعرية العربية) بهدف ان يستعيد الشرق دوره القيادي وامجاده العظيمة.... لا سيما وان الامة العربية الماجدة تختزن قدرات حضارية كبيرة وطاقات نفسية عالية, يقول الدكتور خليل حاوي:
أضلعي امتدت لهم جسرا وطيد
من كهوف الشرق, من مستنقع الشرق
الى الشرق الجديد..
ولم يكن هناك في وضعه النفساني ما يمكن اعتباره خارج المألوف ويقول الدكتور نسيب همام: كنت طبيبه وجميع استشاراته الطبية كانت تجري بإشرافي وحالته الصحية لا تتعدى وضع من يعيش في توتر عال ومستمر ارق كثير ينتابه ويعالجه ببعض الحبوب المهدئة, واضطراب فكري يجعله يتأثر من الانسان العادي من جراء بعض الاحداث ويمكن ارجاع ذلك الى مزاجه الذي يشبه شريط البولاد فهو دقيق وقوي ومتوتر باستمرار.
اما هيمنغواي فيقول الانسان لم يخلق للهزيمة ولكن انتحاره كان مدويا..
وقد صدرت كتب عديدة منذ غاب أرسنت همنغواي عن عالم الادب, ولكن القراء ظلوا ينتظرون كتاب مرافقه الخاص أ.هوتشنر مدة طويلة الى ان خرج الكتاب فأثار ضجة كبيرة في اوساط العالم الادبية.
وهوتشنر صحفي شاب اقبل على همنغواي يطلب منه حديثا ادبيا وهو يقول له: (اذا لم تعطني الحديث, طردوني من الصحيفة).. فاستجاب الروائي الأمريكي الكبير للصحفي الذي اصبح صديقا يلازمه كظله طوال اربعة عشر عاما, حتى موته.
وقد اصدر هوتشنر (بابا همنغواي) بأسلوب روائي شبيه بأسلوب همنغواي نفسه وكشف فيه النقاب عن ان الكاتب الامريكي انتحر انتحارا ولم يقتل خطأ وهو يقلب مسدسه كما زعمت زوجته.. وفيما يلي تفاصيل وملابسات انتحاره: (في يوم الاحد الاول من تموز عام 1961م صحا همنغواي في الفجر بمنزله بمدينة كيستشوم الامريكية, ووضع روبه الاحمر ثم نزل على اطراف اصابعه لئلا تستيقظ زوجته ماري مستخدما سلالم المنزل الداخلية وذهب مباشرة الى المطبخ وكانت الشمس قد بدأت تشرق واشعتها تنفذ عبر نوافذ المنزل, وكان همنغواي قد عرف ان اسلحته قد نقلت الى الدور الارضي من المنزل, وان مفتاح هذا الدور موضوع على حافة شباك المطبخ, فأخذ المفتاح وهبط الى الدور تحت الارضي وفتح الباب ثم انتقى بندقية قصيرة بفوهتين كان قد استخدمها سنوات طويلة في صيد الحمام ووضع همنغواي رصاصتين فيها, ثم صعد سلالم الدور الارضي الى صالة صغيرة مبطنة بأخشاب (الاوك) وغطيت أرضيتها (باللينوليم), ووضع همنغواي مؤخر البندقية على الارض ثم انحنى الى الامام ووضع فوهتيها على جبهته فوق العينين ثم ضغط الزناد.
وقد هشمت الرصاصتن الجزء العلوي من جمجمة همنغواي وتناثر مخه على جدران وارضية الغرفة, وعندما سارعت زوجته ماري نحو دوي الرصاص كانت جثة هنغواي ملقاة من دون حراك على الارض, واهتزت الاوساط الادبية في أنحاء العالم لهذه الفاجعة الأليمة.
وسبب انتحار ارنست همنغواي يعود الى مرضه الذي اخفق الاطباء في معالجته على الرغم من تعريضه لصدمات كهربائية خلال العلاج كانت تسبب له المزيد من الألم والاذى النفسي.. فانتحر خوفا من المرض والشيخوخة التي تكاد تفترسه.. وهو القائل: (الانسان لم يخلق للهزيمة.. قد يتحطم الانسان لكنه لا يهزم).
(فان جوخ) يقطع اذنه ثم..
ملايين الناس.. لا تعرف عن الفنان الهولندي فانسنت فان كوخ الذي ولد في 30 (مارس) عام 1853م, سوى انه كان مصابا بلوثة عقلية جعلته يطلق الرصاص على صديقه الفنان بول غوغان الذي التقى به بعد ان جمعتهما مأساة مشتركة وفجيعة واحدة.
كلاهما معذب يفتش عن الصدق والبراء وكلاهما يعمل ويناضل من اجل رسالة الفن العظيمة مع الاخذ بالحسبان انهما كانا على خلاف دائم فيما يتعلق بالآراء الفنية هذا الاختلاف او التناقض قاد كوخ الى اطلاق رصاصة من مسدسه لاعلى رأس غوغان بل بالقرب منه احتجاجا على موقف صديقه من آرائه.. فكانت النتيجة انهما افترقا عن بعضهما الى الابد.
ولكي يثبت بعض الباحثين جنون كوخ وغرابة سلوكه.. يقولون انه قطع اذنه ولفها في منديل وسلمها الى فتاة سيئة السمعة اسمها (غابي) تعمل نادلة في حانة باريسية قائلا:
- إليك هذه الهدية الثمينة ذكرى مني فاحتفظي بها!?
في اصيل يوم الاحد 27 (يوليو) عام 1890م توقف كوخ مدهوشا امام مشهد كان منذ زمن قديم يحلم بتصويره.. وكان المشهد قريبا من قرية (اوفرسورواز)الفرنسية فرسمه حقلا ذهبيا تتشعب فيه دروب صغيرة شقراء, يحيط بها اخضرار مشرق وفي البعيد يطل افق عميق الزرقة كأمواج البحر في الشتاء تسرح في ابعاده غربان بلون الظلام.
واتم اللوحة وهو يحس نارا محرقة تلتهب في اعصابه وشعر بإعياء شديد وتصبب العرق على جبينه واجتاحه هم مرهق الهم الذي لزمه طول حياته: ماذا بقي لهذا القلب المعذب وقد اعطى كل شيء!!
وكانت بعض الغربان تحوم حوله فتناول المسدس كمن يريد ان يطلق النار على هذه الطيور الكوالح فقد كان سوادها يلوث المكان ولكنه صوب المسدس الى قلبه واطلق رصاصة واحدة فكانت نهايته.
شيع في جنازة متواضعة الى ركن هادئ من مقبرة القرية ووجدت في سترته رسالة طويلة الى اخيه تيو يقول في نهايتها: (حسناً, هذا ما فعلت, أنا وحدي, وقد غامرت فيه بحياتي).
وبكلمات قليلة... فان سبب انتحار كوخ هو وقوعه تحت تأثير نوبات الجنون نتيجة المرض الشديد الذي اصابه منذ فجر شبابه حيث كان يعاني من صداع شديد في رأسه.
والإنتحار... في مؤتمر صحفي!
دعاهم الى آخر وليمة اعلامية... آخر مأدبة كلامية يرتب اطباقها قبل الموت.
دعاهم الى المفاجأة.. الى طقس من طقوس الموت... لم يكن احد يشعر بقدوم هذا الطقس للحيوية التي اداها صاحب المؤتمر الصحفي أمين صندوق ولاية بنسلفينا الامريكية في ذلك الخميس من عام 1988م.
قال لهم: تسلحوا جيدا (بكاميراتكم) و(مايكروفوناتكم) واقلامكم فاني مسلح بما يكفي وضع حد لحياة إنسان او اكثر وبعدما قرأ تصريحا غير مترابط يستنكر فيه الحكم عليه في قضية رشوة اخرج (باد دواير) من مغلف كبير كان يحمله مسدسا ادخل فوهته في فمه وضغط على الزناد, وترك بعض الدم والنخاع على وجه الصحافيين الحاضرين!!
الصحافي مارك شوالتر والمصور غاري ميللر اللذان كانا يسجلان المؤتمر لاحدى شبكات التلفزيون الامريكي وكانا يوجدان أمام منصة دواير قالا انه انذر جميع الحاضرين قائلا: (ابقوا بعيدين لانه يمكن ان اجرح احدا منكم). كانت الطلقة القاتلة امام رعب الجميع..

شكراً أختي نووور وأختي غروووب لمروركم الكريم..

شكرا حيااتي لمرورك الكريم