العقل الكوني .. العقل والدين

شغل موضوع ( العقل ) حيزآ واسعآ جدآ في حياتنا ، بمنطلقاته : الفلسفية والدينية والعلمية ، وضمن جدليتها بعضها ببعض .

ففي العلوم الحديثة المستندة إلى حقائق مكتشفة ، مايؤكد على أن " آثار العقل " والذكاء كانت موجودة في العالم وفي الطبيعة منذ مدة طويلة قبل نشوء الإنسان وقبل نشوء الوعي . ويؤشر ذلك إلى وجود أمر غير مدرك علميآ يقف وراء هذا النظام الذي نصادفه في كل مكان في الطبيعة الحية .

كما أن علماء السلوك .. قد توصلوا اليوم إلى نتائج ذات أهمية غير عادية تقول : ( أنه يوجد في الطبيعة الحية ، " ذكاء " لايرتبط بأية " عضوية ملموسة " .. أي : أن " العقل " ممكن دون وجود " الدماغ " الذي يأويه ) .

فدخول ( العقل والوعي ) إلى هذا العالم ، لم يكن معنا نحن البشر . بما يعني أن : السعي نحو الهدف – التكيف – التعلم – التجريب – الإبداع – الذاكرة – التخيل .. كلها كانت موجودة منذ زمن طويل قبل وجود " الأدمغة " . وهذا يفرض فورآ .. ( وجود عقل ذكي مدبر يرتبها ) . أي : أن هذه الخطط الهادفة والمدروسة بعناية ، لايمكن إلا أن تكون نتيجة تأملات واعية حادة الذكاء .

وهذا البحث عن : الوعي ، الذكاء ، العقل ، كان قد أثار الفلاسفة ومفكري الأديان لتتبع ذلك التكون والتكوين . وخاصة مع تعمق إشكالية العلاقة بين الدين والعقل .
فجهدت الفلسفة للكشف عن الحقيقة العقلية الكامنة في ذات الفكرة الدينية ، بإعتبارهما أمران متكاملان " بدون مزج " . وفي ذلك يقول / إبن رشد / في كتابه ( فصل المقال ) :

[ نَعلَمُ على القطع أنه لايؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ماورد من الشرع ، فإن الحق لايضاد الحق ، بل يوافقه ويشهد له ] .

ومن جهة أخرى ، يقول / أبو سليمان السجستاني / :
[ الفلسفة حق .. ولكنها ليست من الشريعة في شيئ . والشريعة حق .. ولكنها ليست من الفلسفة في شيئ ] .

ويقول / توما الأكويني / :
[ العقل لايختلط موضوعه بموضوع النقل . فالعقل يشتق مبادئه مما غرس فيه من مبادئ عقلية ، والنقل يلجأ إلى الكتب المقدسة . لذلك لابد أن ينضاف النقل إلى العقل من أجل تحقيق كل مضامين الحقائق الخاصة بالإنسان ] .

وما سبق .. يقودنا إلى طرح التصور في التفكير عند الإنسان . فالإنسان القديم – ماقبل اليونان – كان يرى وحدة واحدة متناغمة في العالم ، ولم يكن لديه في مخيلته أن هناك : طبيعة ، وإنسان . بل كانت جميع الظواهر الطبيعية والتجارب الإنسانية هي مجرد حوادث كونية واحدة .

حتى أتى / هيرقلطس / وقال : ( بالعقل الكوني ) .. اللوغوس .. وإعتقد بوجود " قانون كلي " يحكم الظواهر ويتحكم في صيرورتها الأبدية .

وعندما أتى / اناكساغورس / ركز على ( الروح ) .. النوس .. وإعتبرها " القوة المحركة " التي أخرجت الكون من حالة العماء ، إلى حالة التركيب والنظام .

وخلص الفكر اليوناني ، إلى أن : ( العقل قوة تبث النظام في الطبيعة عبر علاقات السببية ، ولا مجال للصدفة فيها ) . وإعتبر الإنسان عبارة عن " قبس من هذا العقل الكلي " .
ومع مرور الفكرة عبر الزمن .. من / اسبينوزا : توحد العقل مع الطبيعة – إلى / ديفد هيوم : العلاقة هي علاقة سيكيولوجية – إلى / ديكارت : العقل قوالب قَبليه سابقة فارغة تملأها الحدوس الحسية لتحولها إلى معرفة – إلى / هيغل : التوحيد بين ماهو عقلي وماهو واقعي حيث النشاط الإنساني بما فيه الدين ، تمظهرات عقلية متحركة .
حتى أتى .. / الكونتم فيزياء / ومسألة " النسبية " . فإتجه العلم نحو ( الكاوسية ) ناقضآ فكرة : الثبات والنظام والشمولية . حيث أصبح : الكاوس / اللانظام – هو حالة الكون التي تقابل النظم اللاهوتية أو حالة النظام الطبيعي .

لكن " الكوس " هنا لايعني ( الفوضى المطلقة ) ، بل يعني أن الكون لم يعد مجموعة ظواهر منتظمة متناغمة متسقة ، بل مجموعة من " منتظمات " ديناميكية متداخلة " ومركبة بطريقة معقدة جدآ وفائقة الحساسية . وبالتالي لم تعد ( العقلانية ) تقتصر على مطابقة مبادئ العقل ، مع قوانين الطبيعة ، بل أصبحت عبارة عن القدرة على بناء منظومات تتسع لتشمل مختلف الظواهر . ولم تعد ( المعرفة) فعل تلقي أو إكتشاف ، بل أصبحت " فاعلية إنسانية " .

ومن ثم أصبحت ( المسألة العليا في الفلسفة ، هي الإنتقال من المطلق الصوري ، إلى المطلق العيني الحي .. ومن فكرة الله ، إلى الله ) ، كما يقول / برغسون / .
والدين .. الذي يتمحور حول العلاقة مع الله ، ويقوم على معطيات الوحي وسوابق متعالية ، يجعله بمنأى عن أي تحولات علمية أو إشكاليات منطقية . فهو – الدين – نتاج روحي خالص ، يُكوّن روح الشعوب ويجعله متجذرآ في ضميرها .

ثم ينتقل الدين من حالة وعي وجداني وإلتزام عفوي بالنص ، إلى حالة منظمة ومعقلنة للوعي ، تحتوي على مجموعة عقائد ومبادئ تشريعية وسلوكية وممارسات عبادية ، وعلى أطر تنظم العلاقة بين المؤمنين ، ثم بين المؤمنين وباقي البشر .

و ( الغيب ) لم يمنع الدين عن أن يكون ميدان فعالية إنسانية . فالمعرفة الدينية ليست نصآ ووحيآ فقط ، بل هي حالة تلقي فاعل مع الوحي ، ونشاط " تأويل وتفسير لهذا النص " ، و " إعادة إنتاج " مستمرة لحقائقه في ساحات الإجتماع والإقتصاد والسياسة .

فالمعنى الديني .. ليس مجرد فكرة نتلقاها من النص ، بل هو حصيلة جدل وصراع وتراكيبية بين ذات قارئة محملة بمسبقات مكثفة وهواجس متداخلة ومعقدة .

ان القارئ لايتأمل نصآ بحيث يكون هناك معنى ثابت .. ولكنه يجلب إلى النص ، إدراكاته وتفضيلاته الخاصة .

وهذا يوصلنا إلى أن : ( هناك ذاتآ كلية فاعلة – الله ) وراء قواعد العقل ، ووراء المعنى الديني . وأن مفهوم كل من العقل والدين والعلاقة بينهما ، ماهي إلا إنعكاسات لواقع أنتجه ، ومرآة لصورة يكونها المرء عن ذاته . ويصبح العقل والدين " معآ " ميدان تأويل يُشبع به الإنسان سعيه الدائم إلى المعنى ، ويصنع به ذاته وحقيقته ، ويبني به تجربته في العالم والوجود .
-----------------------------