قصة : جابر عثرات الكرام :
كان في زمن الخليفة سليمان بن عبدالملك رجل من بني أسد يقال له : خزيمة بن بشر، مشهور بالمروءة والكرم والمواساة، فلم يزل على تلك الحال حتى افتقر، واحتاج إلى إخوانه الذين كان يواسيهم فواسوه حيناً ثم ملوه فقرر أن يلزم بيته ولا يخرج إلى أن يأتيه الموت !
وكان عكرمة الفياض والياً على الجزيرة، فسمع ماجرى لخزيمة، فسأل : أما وجد خزيمة بن بشر مواسياً ولا مكافئا ؟
قالوا : لا .
فأمسك عن ذلك الحديث لأمر أخفاه في نفسه .
فلما كان الليل عمد إلى أربعة آلاف دينار، ووضعها في كيس واحد، وخرج متنكراً سراً حتى وقف بباب خزيمة وطرقه، فخرج خزيمة، فقال له : أصلح بهذا شأنك.
فتناوله فوجده ثقيلاً ، فقبض خزيمة على لجام الدابة، وقال : من أنت، جعلت فداءك؟
قال له : ما جئتك في هذا الوقت وأنا أريد أن تعرفني !
قال خزيمة : فما أقبله أو تخبرني من أنت ؟
فقال : أنا "جابر عثرات الكرام" ثم انصرف .
فدخل خزيمة داره وهو يتحسس الكيس والدراهم غير مصدق .
ورجع عكرمة إلى منزله، وأخبر امرأته بما فعل وأمرها بكتمان الأمر .
ثم أن خزيمة أصبح، وأصلح من حاله، وذهب قاصداً سليمان بن عبدالملك فلما حضره، سأله الخليفة عن حاله وسبب إبطاءه عنه ؟
فأخبره خزيمة بقصة زائر الليل .
فقال سليمان : هل عرفته ؟
قال : لا والله لأنه كان متنكراً ، وما سمعت منه إلا أنه جابر عثرات الكرام .
فتلهف سليمان على معرفته، وقال : لو عرفناه لأعنّاه على مروءته ثم أعطى لخزيمة إمارة الجزيرة وأحال عكرمة، وأمره بالتوجه إلى الجزيرة.
فخرج خزيمة إليها، فلما قرب منها خرج عكرمة وأهل البلدة للقائه، فنزل خزيمة دار الإمارة، وأمر أن يؤخذ عكرمة ويحاسب فحوسب، ففضل عليه مال كثير، فأمر خزيمة بحبس عكرمة.
وأقام على ذلك شهراً، فأضناه ثقل الحديد وأضر به .
فأرسلت زوجة عكرمة جاريتها إلى خزيمة، وقالت لها : قولي له ما كان هذا جزاء جابر عثرات الكرام منك في مكافأتك له بالضيق والحبس والحديد.
ففعلت الجارية ذلك.
فلما سمع خزيمة قولها؛ قال : واسوأتاه ! جابر عثرات الكرام غريمي !
فأمر من وقته بدابته، ودخل على خزيمة في حبسه وقد أضناه الضر، فانكب على رأس عكرمة يقبله.
فقال عكرمة : ما أعقب هذا منك ؟
قال : كريم فعالك وسوء مكافأتي .
قال : يغفر الله لنا ولك .
ثم أمر خزيمة بفك قيود عكرمة وخرجا جميعاً إلى أن وصلا إلى دار خزيمة، فأكرمه وكان يقوم بخدمته بنفسه، وسأله أن يسير معه إلى أمير المؤمنين فسارا جميعاً حتى قدما على سليمان بن عبدالملك.
فلما دخل عليه قال له : ما وراءك يا خزيمة؟
قال : خيراً يا أمير المؤمنين، ظفرت بجابر عثرات الكرام، فأحببت أن أسرك لما أعلم من شوقك إلى رؤيته.
فقال : ومن هو ؟
قال : عكرمة الفياض فأذن له بالدخول، فدخل وسلم عليه وأدناه من مجلسه وقال : يا عكرمة، كان خيرك له وبالاً عليك .
ثم قضى حوائجه وأمر له بعشرة آلاف دينار، وعقد له على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان، وقال له : أمر خزيمة بيدك، إن شئت أبقيته وإن شئت عزلته.
قال : بل أرده إلى عمله يا أمير المؤمنين ثم انصرفا جميعاً، ولم يزالا عاملين لسليمان مدة خلافته .