عبدالعزيز الشثري
قلب كن قوياً كقلبها :
إلى هذه اللحظة لا أزال عاجزاً عن الكتابة ..
لكنها محاولة !
في مساء مثل هذا اليوم
في العام الماضي
20/ 10 / 1440 هـ
مرّت دقائق تلك الليلة وكأنها سنوات لثقل ما أسند إلي !
بدأت تفاصيل الحكاية..
من اتصال تلقيته
من (فهد ابن عمتي)
في وقت متأخر ليقول:
"توفيت أمي قبل قليل
أرجوك كن قريباً منا
لتخبر إخواني"
قلت: تعني جدتي؟ وهي تسكن معهم.. قال: لا أمي..كررت عليه ذات السؤال مندهشا.. -
ولا أدري عن سبب ذهولي
هل كان خوفاً على صحة جدتي حين يبلغها الخبر أم حزناً
على فقد عمتي -
فكان الجواب كالصاعقة! "ياعبدالعزيز أمي مريم
وليست جدتي".
-وكأني بك تتساءل عن وجه ذهولي حين كررت عليه السؤال ؟!
إليك الخبر !
جدتي لتوها فاقت من غيبوبتها -بلطف الله - إثر جلطة دماغية كادت أن تودي بحياتها وبعد خروجها من المستشفى اختارت العيش عند عمتي ( أم سعود ) التي رعتها حق رعايتها وأحسنت إليها أيما إحسان =
ثم بقيت جدتي في منزل (عمتي) قرابة ( الـشهرين ) وكأنها حديثة عهدٍ بعرس لا تلبس إلا أحسن الثياب ولا تتعطر إلا بأجود أنواع الطيب والبخور .. وتُهيأ موائد الضيافة للزائرين لها مع كثرتهم بشكل شبه يومي دون ملل أو كلل !
أما ليلة ما قبل الوداع !
كانت الجدة وعمتي في زيارة لوالدتي .. تكفلت بإيصالهم لمنزلهم .. وأثناء الطريق دارت بيننا أحاديث المزاح المعتادة ... لكن في هذه المرة .. لا أدري كيف هديت -بفضل الله - إلى الحديث عن الله ولطفه وكرمه.. وكأني أسمع ( عمتي أم سعود ) تُهمهِم بالتسبيح والحمد .
وصلت لمنزلهم وكانت (عمتي) تشكو وجعا في يدها أخبرتنا به.. ولما نزلت من سيارتي .. قالت انتظر فأخذت ماء بارداً من بيتها وأعطتنيه .. دون أي مناسبة .. ثم ودعتني !
يوم الرحيل! في مغرب اليوم التالي أحضرت قهوتها لجدتي وكانتا تتجاذبان أطراف الحديث وبعد العِشاء إزداد وجعها فطُلب منها أن تذهب للمستشفى..لحظة وصولها هناك كانت تصبّر ابنتها وكأنها تعزيها وتشعرها ببوادر رحيلها .. ولما أدخلوها للغرفة لاستكمال فحوصاتها.. فجأة: لفظت أنفاسها الأخيرة !
نعم رحلت .. وكأنها صفحة بيضاء طويت بهدوء .. خرجت من بيتها ولم تعد .. خرجت و لم تعرف أنه كان آخر فنجان قهوة تشربه مع أمها - التي ترقب اللحظات لعودتها - خرجت والموعد الجنة - بإذن الله ..
رحلت الطاهرة عفيفة اللسان، طيبة القلب التي فَقدت زوجها قبل سنوات طويلة وتفرغت لتربية أولادها وبناتها حتى كان يشار إليهم بالبنان خلقا وأدبا وتميزا وبلغوا الدرجات الرفيعة من النجاح والعطاء.. بفضل الله ثم بصبرها وحسن رعايتها ..
وماذا بقي ؟!. بقيت الجدّة الثمانينية التي تعد اللحظات عداً لعودة ابنتها البارة لعلها تكمل معها عشائها الذي تأخر عليها كثيرا -هذه المرة - وتشاطرها أحاديث السمر المعتادة !
تفاصيل تلك الليلة لا تنسى كانت ثقيلة جدا من كل نواحيها .. كيف سنخبر بقية أبنائها .. كيف سنخفف مصابهم الجلل .. لكن لا يزال الخيار الأصعب .. هو كيف يكون أثر خبر وفاتها (رحمها الله) على صحة جدتي المريضة كبيرة السن ؟!
لا يهم .. يجب أن أقطع حبل التفكير حالاً واستجمع قواي واستمد العون من الله بركعتين خفيفتين .. ثم اقتحمت سكون المكان الذي كانت تجلس فيه جدتي فوجدتها متوضأة على سجادتها ملتحفة خمارها ولم تبدأ بعدُ صلاتها بالليل ..
اللحظات القاسية! استعنت بالله وجلست بجانبها وكأني أحمل جبال الدنيا فوق رأسي والأحفاد يلفون حولها.. يرتقبون صيحات التّثبيت والتصبير عند أول وهلـةٍ يطرق سمعها خبر موت ابنتها ! ولكن...
في لحظة.. سكت الجميع وهم يسارقونني النظر .. عرفت حينها أنهم اسندوا لي المهمة! ويالها من مهمة! قلت يا يمه : عمتي تعطل قلبها .. قالت : سهله ياولدي الله قادر أن يشفيها ! قلت يا يمه : دخلت في غيبوبة! وحالتها حرجة .. قالت: فلان جاه مثل بنتي ... وعوفي من تعبه -بإذن الله .
وهنا : أغلقت في وجهي جميع خيارات التمهيد! استجمعت قلبي وعدت بقوة وأنا أنتزع الكلام من قلبي نزعاً! قلت : يا يمه لوكان ما عند الله خير لـ ( عمتي ) من بقائها في الدنيا .. بتردينها لا تروح لربي يكرمها ؟ وبعد لحظة صمت ثقيلة ! قالت: لا ياولدي.. شيء كتبه الله على بنتي كيف بأردّه؟!
حينها ! امسكت على جسدها النحِيل الذي كان يحوي قلباً كجبل أحد في ثباته.. خوفاً على وقع الخبر عليها و قلت : " عمتي سبقتنا إلى ربي ... عمتي تطلبك الحلّ يا يمه ..":broken_heart:
أمسكت بيدي وقالت في ثبات كسرت به سياج الصمت الذي كان يلفّ المكان : " لا إله إلا الله ..يا عيالي والله أني صابرة..الله يعيذني من الشيطان .. إيه يا أم سعود.. الله يرضى عنك مثل ما أرضيتيني !
خارت قواي عند ثباتها! ... وأيقنت أن فواجع الدنيا وشدائدها تهون على من تعلقت قلوبهم بالله وقت الرخاء .. وعرفت حينها أثر كثرة ذكر الله عند فجاءة النقم ونوائب الفقد ! .. ثم أخذت تصبّر من حولها وتسترجع .. وكأنها تُغالب غصة في قلبها لا يعلم ما يختلج بداخله سوى الله ..
وبقيت جدتي لا يفتر لسانها عن الذكر والاسترجاع والدعاء وتثبيت من حولها ... وكان أبناء العمة وبناتها إذا ألهبتهم الذكرى وأوجعتهم سياط الحنين لتلك الأم الطيبة تترّسوا بثبات جدتهم لتصبرهم وتسليهم عن مصابهم ...
اللهم قلباً ثاتباً لا تزعزعه الفواجع، ولا تربكه مفاجآت القدر ، وتغمد يارب برحمتك (عمتي) وجميع موتى المسلمين . ومتع بالصحة والعافية جدتي واختم لنا ولها بخير ..
ختاماً :
هذه جدتي الغالية كانت تنادم نفسها بهذه الكلمات المبعثرة في أيام العزاء
يالمقبرة جاك نور الدار
جعلها مع الحور بالجنة
