إن الحديث عن الفكر السيكولوجي بدءاً من الفلسفة اليونانية لا يعني مطلقاً أنَّ الفلسفات التي سبقتها لم تعن بهذا الجانب المعرفي، بل إنها حملت الكثير من الآراء والملاحظات التي عكست اهتمام أصحابها بطبيعة الإنسان ونشاطه النفسي، على الرغم من الطابع الميتافيزيائي لها. ولقد أثرت هذه الفلسفات على التطور الذي عرفه الفكر الفلسفي في بلاد اليونان. ويشير مؤرخو الفلسفة، مثلاً، إلى بصمات الفلسفة المصرية الواضحة على تعاليم الفلاسفة اليونانيين، وخاصة تاليس الذي يعتبر مؤسس الفلسفة القديمة.
تنسب إلى تاليس (640-547 ق. م) الحكمة المشهورة "اعرف نفسك" التي أصبحت المبدأ الرئيسي الذي اعتمد عليه سقراط في تعاليمه. وتقدم مدلولات هذه الحكمة الدليل الواضح على محاولة حكماء تلك الحقبة فهم السلوك الإنساني ومكانة الإنسان في هذا الكون.
ذلك لأن وجود الإنسان وأصله ومآله كانت إحدى المشكلات التي حاول تاليس البحث فيها ومعالجتها. فقد رأى أن الإنسان كائن يتألف من عنصرين رئيسيين متناقضين، الجسد أو البدن من جهة، والنفس أو الروح من جهة ثانية.
ويشاطر فيثاغورث (578-450 ق. م) وأتباعه تاليس نظرته إلى العلاقة بين الجسم والنفس كجوهرين لا صلة لأحدهما بالآخر من حيث أصله وطبيعته. ويقول فيثاغورث بإمكانية انتقال الروح من إنسان إلى آخر، أو إلى أي كائن حي، بعد الموت. وهذا ما يعرف بتناسخ الأرواح. وقد لاقت هذه الفكرة صدى إيجابياً لدى بعض الفلاسفة اليونانيين. كما وجدت طريقها إلى معتقدات عدد من المذاهب الدينية المختلفة في مراحل متأخرة من التاريخ العالمي. ويذهب بعض المؤرخين إلى أن فيثاغورث لم يكن أول من طرح هذه الفكرة، وإنما نقلها عن الفلسفتين القديمتين: المصرية والهندية.
ثم جاء الفيلسوف سقراط(470-399ق. م) ليطوّر نظرة تاليس إلى الإنسان، معلناً أن الجوهر الأول، أي النفس العاقلة أو الروح، هو جزء من العقل الكلي أو الروح الإلهية. أما البدن فيتألف من عناصر العالم المحسوس: الماء والتراب والنار والهواء. وبما أن النفس الإنسانية هي جزء من الروح الإلهية التي تسيطر على الظواهر والحوادث والأشياء الكونية، فإنَّ بإمكان الإنسان السيطرة على بدنه والتحكم برغباته وشهواته.
وعلى هذا فالنفس، من خلال هذا التصور، تشارك فيما هو إلهي، وهنا يبرز مغزى الشعار الذي رفعه سقراط "اعرف نفسك بنفسك". فمعرفة الإنسان لذاته تتوقف، في رأي سقراط، على الارتداد أو الرجوع إلى النفس وتأملها والوقوف على ما هو مشترك بينها وبين الروح الإلهية، أي بين الإنسان وبين الله.
وانطلاقاً من طبيعة كل من الجوهرين(النفس والبدن) يعتقد سقراط أن للنفس القدرة على البقاء بذاتها والخلود بعد مفارقتها الجسد، ما دامت تستمد حركتها من ذاتها، أي من الروح الإلهية. وهي على العكس من الجسد الذي يفنى لأنه يستمد حركته من الخارج.
تأثر أفلاطون(427-347 ق.م) بأستاذه إلى حد كبير. وهذا ما يظهر بجلاء عبر نظرته إلى طبيعة الروح والجسد ومصير كل منهما. والبرهنة على خلود الروح –بالنسبة له- تكون عن طريق المعرفة ذاتها؛ إذ من غير الممكن في رأيه تقديم تفسير صحيح وكامل للمعرفة من غير أن تتأمل الروح المثل التي تنتمي إليها قبل أن تحل في البدن. وهنا يطرح أفلاطون نظريته في المعرفة.
فالمعرفة الحقة تتم –في اعتقاد أفلاطون- عن طريق عملية التذكر التي يقوم بها الإنسان أثناء نشاطه الحياتي لما كانت النفس قد تمثلته قبل هبوطها إلى الأرض. فما ينتاب الإنسان من مشاعر وأحاسيس خلال مراحل حياته. وما يدركه من حوادث وأشياء وعلاقات على هذه الأرض، ما هو إلا الانطباعات والصور التي حملتها الروح معها من عالم المثل.
ويجد أفلاطون أن النشاط النفسي الدائم هو دليل خلود الروح. فالروح لا تعرف السكون، ولا تكف عن الحركة لأنها تستمد هذه الحركة من ذاتها. وهي، فوق ذلك، منزهة عن الموت باعتبارها مبدأ كل حركة. ولما كان هذا شأنها، فهي تشبه المثل المطلقة الخالدة، خلافاً للجسد الذي ينتمي إلى العالم المحسوس ويتركب من العناصر الفانية.
وعلى هذا فالإنسان –كما يراه أفلاطون- نفس وبدن. ويعتبر الارتباط بينهما ضرباً من تلاقي الأضداد واجتماعها. فالبدن يحول دون المعرفة الحقيقية لما يثيره من فوضى وتشويش في العمليات المعرفية. أما النفس فهي عقل خالص يتأمل جوهر الأشياء ويدرك كنهها. ولكنها تتعرض للعديد من المصاعب والضلالات حين يجرها البدن نحو الأشياء المحسوسة وتلبية الرغبات والشهوات الجسدية(الكهف الأفلاطوني).
من كتاب علم النفس في القرن العشرين
د. بدر الدين عامود