ما انفكت لغتنا العربية عن كونها ذات حلاوة، وعليها طلاوة؛ وذلك لما أودعها الله تعالى من قوة لِتَحَمُّلِ مصادر التشريع وسر الإعجاز، ويعمى عن شمس النهار من ينكر أثر ذلك في فورة التشريع الإسلامي باجتهاد الفقهاء، فما استنباطاتهم ولا اجتهاداتهم إلا جدران عالية على أسس اللغة، وما علماء العربية ولا شعراؤها عن ذلك ببعيد، وكُلٌّ يغرف بمقدار مُدِّهِ، ولئن حق لك أن تبكي فليكن بكاؤك على لغة كادت أن تموت بين أهلها بفعل النسيان وعدم المبالاة.
إن للعامل الديني هنا مجاله الذي لا يبارى ولا يجارى في الحفاظ على هذه اللغة، فطالب العلم الشرعي – إن ثبت أنه منهم - محال أن لا تطرق أسماعه تفاصيل الجُمَلِ وإعرابُها، ومقاييس الكلماتِ وأضرابُها، ولمَّا كان الناس على غيرِ همَّةٍ لتحصين الدين من خوارمه، فقد خارت هِمَمُهُمْ لتحصيل اللغة من مضانها، وباتت العامية المستقاة من شاشات التلفاز أداة التواصل، وحدث غير متحرج عن دخول لهجة بلد في لهجةِ أخرى، حتى اختلط الحابل بالنابل، وإنك لتتقذر من سماع من يتكلم متكلفا بغير ما اعتاد عليه من لهجة آبائه وأجداده ليقلد من بهره حسنه.
المفارقة في الأمر أن لشهوة الفرج هنا مدخلا وشِقْصًا، فالشباب يكتبون ويتحدثون بلغةِ مَنْ بَدَأَ عنده أَمْرُ المراسلة ممن وصلتهم المدنية ببهرجها، والفتياتُ لِما جُبِلَتْ عليه مِنْ حُبِّ استجلاب الثناء والمديح تبلي بلاء حسنا في الكتابة والتحدث بلغة المراسلة، وترى العجب العجاب من حلول الجيم (الفارسية) المثلثة النقط محل الكاف، فإن لم تسعفهم لوحة الكتابة اكتفوا بجيم ذات نقطة! وترى الياءَ محلَّ الجيم، والجيمَ محل القاف، ويغلب الطبع التطبع عندما تسمع مذيعا أو مذيعة يتبختر بين أصناف الجيمات والياءات لا يستقر على حال واحدة.
قد يعارضني البعض بأن من هذه ما هو لغة من لغات العرب، وأقول صدقت أن لو كانوا يتكلمون بلغة العرب، أَمَا وإنَّ لغةَ (راح أروح) و(اتصل فيني) هي الموردُ، فالخبيثات للخبيثين.
أنا لا أَتَقَصَّدُ متكلما بلهجةِ أهلهِ وقومه، غير أني أَغْتَرِضُ مَنْ سَفِهَ لغةً نشأ عليها هي أقرب إلى فصيح العربية من ركيك الشاشات، يظهر ذلك جليا في لغة أهل داخلية عمان ممن لغتهم إشمام القاف كافا على نحو ما لعرب مضر في السابق، وما لقاطني نجد وتهامة واليمن الآن، ثم يتفاصح أحدهم بقلبها جيما، وهكذا في بقية الانقلابات التي ما سبَّبتْها السرعة ولا التهور!
ومما يدلك على إِمَّعِيَّة العامة أنهم يقيمون الفعل مقام الحرف فيقولون ( راح نقوم بـ...) مخالفين سَنَنَ العرب في السهولة والوجازة، إذ عهد العرب أن تقيم الحرف مقام الفعل كما في النداء، بل والحرف مقام الجملة برمتها كما في تنوين العوض، فما كان أغناهم اليوم بالسين وسوف عن ( راح).
إن رابع المستحيلات - وليس سابعها كما اشتهر عند العامة - تلذذ قارئ نشأ على ( اعطيني واحد عصير بواحد ريال) برصين سبك المقفع لقصصه، أو مليح نظم التهامي لشعره، أو بديع رصف البهلاني لمقصورته، بَلْهَ إحكامَ الكتاب العظيم في ترادف آياته، وتوالي كلماته.
وأما عن الخط فما أحسب إلا أن القوم أصابهم داءٌ شِعْرِيٌّ، من أعراضه الكتابة العَرُوْضِيَّةُ، مجاراةً لأهل الزمان في إسقاط ما لا ينطقونه من الحروف طلبا للاختصار، وأحْرِ بك أن تقرأ ورقة كتبها أحدهم بدل شرائك مجلة هزلية؛ لترتسم الابتسامة على محياك، وتدمع عيناك ضحكا.
لك الله أيتها اللغة، فلسنا بأبطال ولا مُكْرَهِيْنَ، أذلٌّ مِنْ فَقْعٍ بقرقر، والله المستعان.